إن إجهاض الأجنة ليس وليدا لعصرنا الحاضر بل كانت له جذوره السابقة وإن كانت سبله ووسائله قد تطورت عن سابقتها!
فقد عرف الإجهاض منذ قرون عديدة، وقد إعتبرته الديانة اليهودية حراما ويجازون عليه بالعقوبة.
وتبعتهم في ذلك الديانة النصرانية التي حرمت الإجهاض أيضا تحريما قاطعا.
أما جاهلية العرب فقد ضربت أغلظ الأمثلة في قتل النفس البشرية فكانت تئد مواليدها خشية الفقر والعار وهذا أشد جرما من الإجهاض.
ومنذ عهد الأطباء المسلمين السابقين كانت تنقل عنهم وصفات لإسقاط الحمل لكنها كانت محصورة في دوافع طبية كأن تكون الأم صغيرة لا تحتمل الحمل أو عندما يكون في الحمل آفة وزيادة لحم يضيق على الولد الخروج.
وفي وقتنا الحاضر بات الإجهاض عملا شائعا مؤرقا، حتى بلغت حالات الإجهاض الجنائي في العالم أكثر من خمسة وعشرين مليونا حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية عام 1976م، وزادت هذه الحالات إلى خمسين مليون حالة، أكثر من نصفها في العالم الثالث كما تقول مجلة التايم الأمريكية في 6 أغسطس 1984م، وينتج عنها وفيات عالية جدا، ويعتبر هذا كله تهديدا واسع النطاق للحياة الإنسانية!
ولما كانت مقاصد الشارع تشدد على حفظ ضروراتها الخمس، ولما كان حفظ النفس من أسمى تلك الضرورات وأجلها، فقد إعتنى الفقهاء قدماؤهم ومعاصروهم بهذه المسألة، وأفردوا لها الكتابات وعقدوا لها المؤتمرات العلاجية، وقد كانت أولى تلك المؤتمرات:
مؤتمر خاص عقد في بيروت في بداية عام 1971م، وهو أول مؤتمر من نوعه لبحث مشكلة الإجهاض، حضره ممثلون من كليات الطب ووزارة الصحة من الدول العربية، ولم يسفر عن نتيجة!
وتبع هذا المؤتمر عددا من المؤتمرات واللقاءات والندوات في مناطق متعددة وأوقات متفرقة فعقدت في القاهرة، والصومال، وبكين، وغيرها. وإنتشرت الدراسات في نيويورك كولومبيا، وبريطانيا، واليابان، والإتحاد السوفييتي، وأسبانيا، والبرتغال، وفرنسا، كل هذا لعلاج ظاهرة الإجهاض التي باتت مشكلة من أكبر مشاكل العصر!
ويتفق الفقهاء أن الإجهاض قبل نفخ الروح يختلف حكمه عن الإجهاض بعدها ولا يساويه والإجهاض قبل نفخ الروح هو في الحقيقة إتلاف لمخلوق مآله أن تنفخ فيه الروح ويصبح آدميا وليس هو قتل لنفس محرمه.
وفيما يلي توضيح مبسط لأبرز معالم هذه الظاهرة:
Ø تعريف الإجهاض (الإسقاط):
المراد بالإجهاض، إلقاء المرأة جنينها ميتا أو حيا دون أن يعيش، وقد استبان بعض خلقه بفعل منها أو غيرها.
وعرفه بعضهم بـ:
الإجهاض الإرادي الاختياري وهو إخراج الحمل من الرحم في غير موعده الطبيعي عمدا وبأي وسيلة، ويكون غير قابل للعيش.
وكما تقدم فالحديث هنا مقصور على إلقاء المرأة جنينها قبل نفخ الروح فيه.
¤ أسباب الإجهاض:
إن إجهاض الأجنة له أسبابه الدافعة إليه وتتعدد هذه الأسباب والدواعي ما بين:
o دواعي أخلاقيه كـ:
1- خشية العار من الزنا.
2- التخلص من حمل الإغتصاب.
o دواعي مرضية أو علاجية كـ:
1= الإسقاط في حالة خشية مرض الأم أو تضاعف مرضها أو موتها.
2= الإسقاط في حالة خشية تشوه الجنين أو مرضه.
o دواعي اجتماعية كـ:
1) الإسقاط بسبب الفقر.
2) الإسقاط لتحديد النسل.
¤ أحكام الإجهاض من حيث الدوافع:
وتبعا للدوافع السابقة الذكر يختلف حكم الإجهاض الناشئ عنها:
o أولا: الإجهاض بسبب الدوافع الأخلاقية:
إن الإجهاض بهذا الدافع بات أكثر أسباب الإجهاض إنتشارا في مجتمع ضعفت فيه المراقبة الربانية، وصارت تعاليم الشارع مجرد أعراف إجتماعية، وساهم في ذلك كثيرا إنتشار الوسائل التي تحرض على الرذيلة وتروج لها ترويجا هابطا!
وقد اختلف في حكم هذا الإجهاض على قولين:
القول الأول:
جواز إجهاض الحمل الناشئ عن زنا مطلقا -المالكية والشافعية- والحنفية والحنابلة يرون جواز الإجهاض في الأربعين مطلقا.
= أدلتهم:
1= أن النطفة في الأربعين الأولى لا حياة فيها ولا حرمة لها -لأنها من زنا- فجاز إسقاطها.
2= أن في هذا الحمل مفاسد للطرفين فالأم توسم بالعار فتقتل بسببه، أما الولد فينشأ بلا نسب ويكون منبوذا في مجتمعه.
القول الثاني:
أنه يحرم إسقاط الحمل الناشئ عن سفاح.
= دليلهم:
1) قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فلا ذنب لهذا الصبي حتى بهضم حقه في الحياة لأجل دفع العار عن أمه.
2) أن النبي صلى الله عليه وسلم حفظ حياة جنين الغامدية ولم يسأل هي في أي شهر ولو كان يجوز إسقاطه لما أخر حمله لأن الواجب لا يسقط إلا لواجب.
3) أن الإسقاط عندهم من قبيل الرخص والرخص لا تناط بالمعاصي.
4) أن فيه فتح لذريعة الفساد لأن ما يحول دون الزنا أثره وفضيحته وعاره فلو جوز إلغاء هذا الأثر لكان في ذلك تشجيعا لها.
أما الاغتصاب:
فهو أمر عمت به البلوى لكثرة الحروب وحالات الإختطاف وكثرة الدواعي للفاحشة، والقول بجواز إجهاض هذا الحمل متوجه، بل ذهب إليه العلماء الذين كانوا يرون الحرمة في إجهاض الجنين الناتج عن حمل سفاح وقالوا بالجواز في هذه الحالة.
= دليلهم:
قواعد الشريعة تشهد لذلك، مثل:
لا ضرر ولا ضرار، والضرر يزال، والحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، فهذا الحمل سيؤثر على الأم ويسبب لها ألما نفسيا فضلا عن آثاره السيئة على المجتمع، فإن هذه المفاسد تترجح على مصلحة المحافظة على جنين لم يكتمل خلقه وتصوره.
وهذا الكلام يتجلى فيما دون الأربعين إذ أن بعض الفقهاء أباح الإجهاض في هذه الفترة بدون سبب.
أما بعد الأربعين فالجنين قد تخلق، ومتى أمكن التخفيف من الآثار الواقعة على الأم بأي وسيلة فإن القول بعدم الجواز متوجه لأن الجنين قد تخلق وليس له ذنب ولا ضرر بالغ في بقائه، ولأن الأصل تحريم الإعتداء على الجنين منذ العلوق، وإنما أبيح للعذر والعذر هنا لا يقوى على دفع الأصل.فعلى المرأة أن تصبر وتحتسب!
o ثانيا: الإجهاض لدوافع مرضية أو علاجية:
الصورة الأولى:
قد تكون الأم الحامل معرضة بحملها لمرض ما يتوقع حصوله، تنبأ من الطبيب بناء على أدلة وقرائن.
أو قد تقع بسببه في خطر تحتاج إلى دفعه، ولا سبيل إليه إلا بالإجهاض.
الحالة الأولى تسمى بالإجهاض لدوافع مرضية، في حين تعتبر الحالة الثانية إجهاضا علاجيا.
= ومن الأمراض التي تعترض الحامل في حملها وتطلب تدخلا علاجيا:
* نزيف الرحم الغزير في أشهر الحمل الأولى.
* إقياءات الحمل العنيدة التي تبلغ المرحلة الثانية من تطورها.
* داء الرقص الحملي.
* الإستسقاء الأمنيوسي الحاد.
* مضاعفات أمراض القلب.
* أمراض الكلى المزمنة.
* سرطان الثدي وعنق الرحم يزدادان مع الحمل.
* أمراض الدم المختلفة المصحوبة بتجلط.
حكم الإجهاض في هذه الحالات:
والإجهاض هنا يعد ضرورة أو حاجة، والحاجة تنزل منزلة الضرورة والضرورات تبيح المحظورات.
إلا أنه يشترط لتطبيق الضرورة شروطا هي:
1= أن يكون الضرر قائما غالبا على الظن لا مجرد توقع.
2= أن لا يكون لدفع الضرر وسيلة أخرى.
3= أن تكون المصلحة المستفادة من إستباحة المحظور بسبب هذا الضرورة أعظم أهمية في نظر الشارع من المصلحة المستفادة من تجنب المحظور، أو أن تكون المفسدة المترتبة على تجنب المحظور أعظم من المفسدة المترتبة على ارتكابه.
4= أن تكون الضرورة ملجئة بحيث يخشى على النفس التلف.
إلا أنه:
يجب الاحتياط في تقدير العواقب!
فالأمراض أغلبها لم يعد لها تأثير على الأم مع هذا التغير التكنولوجي والتطور الطبي حتى حصر الدكتور محمد البار السبب الوحيد الداعي لخطر الأم هو تسمم الحمل، وحتى في هذه الحالة لا تحتاج إلى الإجهاض وإنما إلى الولادة قبل موعدها فقال: ونتيجة للتقدم الطبي الهائل فإن قتل الجنين لإنقاذ الأم يصبح لغوا لا حاجة له في معظم الحالات المرضية.
فعلى الطبيب أن يتقي الله ويتحقق مما يدعيه أسباب طبية أن يجتهد في معالجة تلك الأمراض حسب ما يظهر له بوسائل الطب الحديثة، فإذا إستقر الإجهاض على أنه الحل الوحيد وكان قبل نفخ الروح فيباح فعله إذا كان علاجا لحالة نشأت من الحمل أو زادت بسببه.
= دليلهم على ذلك:
• أن فيه تخريجا على جواز قطع اليد المتآكلة.
قال العز بن عبد السلام: وأما ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه، فكقطع اليد المتآكلة حفظا للروح إذا كان الغالب السلامة، فإنه يجوز قطعها -وإن كان إفسادا لها- لما فيه من تحصيل المصلحة الراجحة وهي حفظ الروح.
والجنين في حكم الجزء من أمه فلا يترك الأصل يتلف على حساب العضو أو الجزء، فيجوز التضحية به في سبيل الحفاظ على أمه من خطر الحمل.
1) أن للأم حقوقا وعليها حقوق، ولها حظ مستقل في الحياة فلا يضحى بالأم في سبيل جنين لم تستقل حياته، ولم يثبت له شيء من الحقوق.
2) أن الجنين لم يكتمل تخلقه، ولذلك ذكر بعض العلماء أن معالجة المرأة لإسقاط النطفة يتفرع جوازه وعدمه في الخلاف في العزل، ومن أجازه أجاز هذا ومن حرمه حرم هذا.
الصورة الثانية:
الإجهاض الناشئ عن تشوه جنين:
إذا اكتشف تشوه الجنين في مرحلة ما قبل نفخ الروح فإن مقتضى ما ذهب إليه الأئمة جواز إجهاضه، وليس هناك من خالف في ذلك من المعاصرين.
= دليلهم:
1- أن الفقهاء أجازوا الإسقاط لأسباب أقل من التشوهات كمراعاة وضع ولد الزنا وإنقطاع لبن الأم وليس لأبي الطفل ما يسمح له بإستئجار مرضعة، فالتشوهات من باب أولى.
2- أن هذه التشوهات والعيوب من الأمراض التي لا يرجى منها الشفاء فيصير عذرا مقبولا للإجهاض لاسيما مع مراعاة وضع الجنين، وما سيقابله من عنت ومشقة
3- أن في هذا إرتكاب أهون الضررين فتمام هذا الحمل المشوه فيه ضرر على الجنين والأم والمجتمع وضرر الإجهاض أخف منه.
لكن الدكتور عبد الله با سلامه:
نفى أن يكون التشوه معلوما قبل مرور 14-18 أسبوعا من الحمل أي في حوالي الشهر الرابع، ونتائج التحاليل تحتاج إلى أسبوعين إضافيين مما يعني أن تشخيص التشوهات لا يتم إلا بعد مضي مدة ينفخ فيها الروح! ثم إن نتائجها لا تصل إلى مرحلة اليقين، وقد تثبت عدم صحتها.
وعليه:
فلا بد أن يقيد الحال بما إذا كان يمكن الكشف عن تلك التشوهات مبكرا، كما ينبغي الحرص والحذر والدقة الغالبة على الظن في التشخيص.
الصورة الثالثة:
إذا خيف إنتقال العدوى من الأم إلى الجنين:
فيجوز إسقاطه فيما قبل نفخ الروح فيه، وإلى هذا ذهب بعض الفقهاء المشاركين في الدورة التاسعة في مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي، وبعض المشاركين في ندوة -رؤية إسلامية لمشاكل مرضى الإيدز.
= دليلهم:
1= أن من الفقهاء من ذهب إلى الجواز من غير عذر في مرحلة ما قبل نفخ الروح فمع العذر من باب الأولى.
2= أن حمل المرأة المصابة بالإيدز يسارع في ظهور المرض ويقصر مرحلة حضانته فتتدهور صحة المرأة، فيكون ذلك مسوغا للإجهاض حفاظا على الأصل.
3= أن هذا الجنين مآله الموت حتى بعد الولادة إذ لم يكتشف لهذا المرض علاج حتى الآن، ومرض الإيدز يسمى مرض الموت.
أن الإصابة بهذا المرض لا تعد مسوغا شرعيا للإجهاض بل يترك الجنين لمشيئة الله وقدره، وهذا ما ذهب إليه كثير من العلماء المعاصرين وقد صيغت التوصية النهائية لندوة مشاكل مرض الإيدز بما يفيد عدم الجواز.
= دليلهم:
1) أن إصابة الجنين بالمرض أمر مظنون، وكثير ما بان خطأ تلك التشخيصات الطبية، وإحتمال إنتقال العدوى من الأم إلى الجنين إحتمال ضئيل.
2) أن تشخيص إصابة الجنين بالمرض لا يمكن أن يكون إلا في وقت متأخر أي بعد تمام نفخ الروح فيه.
3) أن إجهاض الجنين لا يساعد على تحسن حالة الأم، فلا مصلحة تدعو لفعله.
o ثالثا: الإجهاض لدوافع اجتماعية:
* الدافع الاجتماعي الأول:
الفقر:
وذلك حين تشعر الأسرة أن هذا الصبي الصغير أثقل كاهلها المادي فترغب بالخلاص منه حتى لا يعيش محروما فقيرا.
وهذا الإجهاض لا يجوز لما يأتي:
1= أن في ذلك سوء ظن بالله وعد ثقة بوعده بالرزق، وفيه مناقضة لمقصود النكاح من التناسل وحفظ الذرية.
2= أن إجهاض الأجنة لهذا الدافع داخل في وأد الجاهلية الذي نهى الله عنه بقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ}.
وعليه فالفقر لا يكون دافعا مسوغا للإجهاض كيف والله تعالى يقول: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ *فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} ولا يجوز إنتهاك القرار المكين إلا لحاجة.
* الدافع الاجتماعي الثاني:
تحديد النسل:
الذي بات موضة عصرية عارمة، فقد رأت هيئة كبار العلماء حرمة هذا النوع من الإجهاض لأن التناسل مقصد شرعي تضافرت عليه النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله.
في حين يرى بعض العلماء كـ الدكتور محمد الأشقر التوسعة على الناس وعدم إحراجهم بأمر لا دليل عليه وأنه ينبغي إباحته لينظم الإنسان نفسه وأسرته، ويتخلص من الحمل في حالات غير مرغوب فيها لأسباب مختلفة فالنطفة لا حياة فيها.
فهذه وقفة على نبذة مختصرة من أحكام الإجهاض قبل نفخ الروح فيه، تجلت فيها حكمة الشارع العظيم، وسمو مقاصده، وحمايته للحقوق والنفوس.
وبالله التوفيق
الكاتب: نهال بنت إبراهيم الباحسين.
المصدر: موقع رسالة المرأة.